سورة البقرة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
{بساطًا}، وطلحة {مهادًا} وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام {جعل} {الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشًا والسماء بِنَاء} الموصول إما منصوب على أنه نعت {رَبُّكُمْ} [البقرة: 21] أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول {تَتَّقُونَ} [البقرة: 12] كما قاله أبو البقاء إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضًا غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة {فَلاَ تَجْعَلُواْ} والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} إلى قوله تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروح: 10] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرًا بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من يخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره {رِزْقًا لَّكُمْ} بتقدير يرزق، و{جَعَلَ} عنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: عنى أوجد وانتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فراشًا أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزًا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطًا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه، وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فراشًا لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا بجعل وفيما تقدم بخلق لاختلاف المقام أو تفننًا في التعبير كما في قوله تعالى: {خُلِقَ السموات والارض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الاشعار نفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ السماء على السموات موافقة للفظ الأرض وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السموات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبني بيتًا كان أو قبة أو خباء أو طرافًا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافًا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدًا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السماء بناء أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي { بساطًا}، وطلحة {مهادًا} وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام {جعل} في لام {لكم}.
{وَأَنزَلَ مِنَ السماء فاخرج *فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} عطف على {جعل} و{مِنْ} الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو حذوف وقع حالًا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول وهو نكرة صار الظرف صفة، وذكر في البحر أن {مِنْ} على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء على الظواهر غير بعيدة نظرًا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارًا رطبًا ومن البراري يابسًا، فإذا صعد البخاري إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويًا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قويًا كان ثلجًا وبردًا، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابًا.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسا تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] بل من علم أن الله سبحانه في السماء على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بحلال ذاته تعالى صح له أن يقول: إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانًا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة.
الماء معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو همزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويهًا بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، و{مِنْ} الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد، فرزقًا حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له لأخرج و{لَكُمْ} ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئًا {مِنَ الثمرات} أي بعضها لأجل أنه رزقكم. وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول {أخرج}، و{ رزقًا} عنى مرزوقًا حالًا من المفعول أو نصبًا على المصدر لأخرج، وإما للتبيين فرزق عنى مرزوق مفعول لأخرج و{لَكُمْ} صفته، وقد كان {مِنَ الثمرات} صفته أيضًا إلا أنه لما قدم صار حالًا على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر تعسف لا ثمرة فيه، وأل في {الثمرات} إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، ومن زائدة ليس بشيء لأن زيادة من في الإيجاب وقبل معرفة مما لم يقبل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضًا أن يكون جميع الثمرات التي أخرجت رزقًا لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقًا وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنه فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك: أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع {من الثمرة} أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات} [الدخان: 25] و{ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل: بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك والمقام يخصصه بها اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من به للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلًا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لابها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا: ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلًا فهو فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال: إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول: إن الله سبحانه ربط الأسباب سبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله تعالى شأنه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطًا بالأسباب قائمًا بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويالله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببًا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قد يوجب فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي بتأويل القول خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل: الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جعل لكم ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك: فلا تجعلوا الخ، والجعل هنا عنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو صيرت الحديد سيفًا، ومنه ما تقدم على وجه يكون بالقول والعقد.
والأنداد جمع ند كعدل أو أعدال أو نديد كيتيم وأيتام والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح، وأصله من ند ندودًا إذا نفر، وقيل: الند المشارك في الجوهرية فقط، والشكل المشارك في القدر والمساحة، والشبه المشارك في الكيفية فقط، والمساوي في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادًا والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وأنما عبدوها لتقربهم إليه سبحانه زلفى إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان، وإن أريد بالند النظير مطلقًا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر، فإن المشركين جعلوا الأصنام بحسب أفعالهم وأحوالهم مماثلة له تعالى في العبادة، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم، ولعل الأول أولى، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا {أَندَادًا} لمن يستحيل أن يكون له ند واحد، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك:
أربًا واحدًا أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا *** كذلك يفعل الرجل البصير
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير {لا تجعلوا} والمفعول مطروح أي: وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه، أو مقدر حسا يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم، أي: تعلمون أنه سبحانه لا يماثله شيء، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الإهلية، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ باعتبار أفراد المخاطبين بالنهي بناء على عموم الخطاب حسا مر في الأمر فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرًا ونهيًا بل قيل: إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} [الأعراف: 54] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال: إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه خلقهم والذين من قبلهم ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضًا تسمى فراشًا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلًا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلًا للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية:
تأمل في رياض الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك


{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: {اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] وعلى {فَلاَ تَجْعَلُواْ} [البقرة: 22] وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفي الشرك بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعًا ولو أريد ذلك لكفى اعبدوا، ولاتشركوا من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود لما أن سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله عليه وسلم لا يشبه الوحي {وَإِنَّا لَفِى شَكّ مِنْهُ} وقيل: هو على نحو الخطاب في {اعبدوا} [البقرة: 21] وكلمة {ءانٍ} إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب من لا قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتابًا والبعض غير مرتاب جعل الجميع كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه وجعلها عنى إذا كما ادعاه بعض المفسرين خلاف مذهب المحققين وإيراد كلمة كان لإبقاء معنى المضي فانها لتمحضها للزمان لا تقبلها إن إلى معنى الاستقبال كما ذهب إليه المبرد وموافقوه والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية، وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلًا ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للاشعار بأن حقه إن كان أن يكون ضعيفًا قليلًا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفًا بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، و من ابتدائية صفة {رَيْبَ} ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية را يوهم كون المنزل محلًا للريب وحاشاه، و ما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في كونه وحيًا من الله تعالى شأنه، والتضعيف في {نَزَّلْنَا} للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب {أنزلنا} وليس التضعيف هنا دالًا على نزوله منجمًا ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} [الفرقان: 32] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبًا في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو فتحت وقطعت، و{ نزلنا} لم يكن معتديًا قبل، وأيضًا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديًا فلا، والفعل هنا كان لازمًا فكون التعدي مستفادًا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضًا لو كان نزل مفيدًا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جملة واحدة} [الفرقان: 32] إلى تأويل، لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل {وَلولاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ} [الأنعام: 37] و{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسرار: 95] وقد قرئ بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج عنى الاتيان بالشيء قليلًا قليلًا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلًا قليلًا قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه رتبه أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازًا أو اشتراكًا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي {نزل} بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله عليه وسلم:
لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي
وقرىء {عبادنا} فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه، ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقًا له ومهيمنًا عليه، وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء} [الأنعام: 91] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيمًا للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى ب (ن) المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من {فَاتُواْ} جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] وهو من الإتيان عنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والاعيان والاعراض، ثم صار عنى الفعل والتعاطي ك {لاَ يَأْتُونَ الصلاة إلا وهم كسالى} [التوبة: 54] وأصل {فَاتُواْ} فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذًا حذف الفاء فقيل: ائتوا والتنوين في {سورة} للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى. و{مّن مّثْلِهِ} إما أن يكون ظرفًا مستقرًا صفة لسورة والضمير راجع إما ل ما التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وأما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضًا كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكًا لطريق الكناية مع ما في لفظ من التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنًا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون من للابتداء مثلها في {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة {فَاتُواْ}.
والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمنير للعبد لأن من لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرًا أبدًا لا تتعلق بالأمر لغوًا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعًا عليه حقيقة كما في أخذت من الدراهم ولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الاتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود من ولأنه يلزم أن يكون {بِسُورَةٍ} ضائعًا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفًا للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للاتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضًا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئًا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادًا من لفظ السورة، ومساق الكلام عونة المقام.
واعترض بأن معنى من لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبه: 38] {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً} [الزخرف: 60] وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا لو علق {مّن مّثْلِهِ} بـ {فَاتُواْ} وحمل من على البدل أو المجاوزة ومثل على المقحم ورجع الضمير إلى {مَا أَنَزَلْنَا} على معنى: فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه، الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: ونزلة المكان ما ليس كان ولا زمان نحو قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار وأيضًا فالاتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا الشهاب أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا قدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأن معناه ائتوا قدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان ثله أو ائتوا قدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضًا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضًا ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية قدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن من ليست بيانية لأنها لا تكون لغوًا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليًا بل ماديًا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتضىٍ أولًا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟ا والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، و ما على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي ولا أزكى نفسي أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجار بردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل.
وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في «الأجوبة العراقية» ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و{مِنْ} بيانية، أما أولًا: فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} [يونس: 38] لأن المماثلة فيها صفة للمأتى به، وأما ثانيًا: فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعًا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح ماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثًا: فلأن أمر الجم الغفير لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدًا يأتي ما أتى به رجل آخر، وأما رابعًا: فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأنه الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر ما نزلنا أن يكون الكلام مسوقًا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟ا وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أميّ كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السياق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرًا كما سنبينه نه تعالى.
قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين}.
الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفًا وجاء عنى الحاضر، والقائم بالشهادة والناصر والإمام أيضًا. و{دُونِ} ظرف مكان لا ينصرف ويستعمل (من) كثيرًا وبالباء قليلًا، وخصه في البحر من (دونها) ورفعه في قوله:
ألم تريا أني حميت حقيقتي *** وباشرت حد الموت والموت دونها
نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافًا للبيضاوي كما قيل لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف كدون زيد في القامة ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيهًا بالمراتب الحسية كدون عمرو شرفًا ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب من غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون عنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله:
إذا ما علا المرء راح العلا *** ويقنع بالدون من كان دونا
ومافي القاموس من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال: دان يدين منه واستعماله عنى فضلًا وعليه حمل قول أبي تمام:
الود للقربى ولكن عرفه *** للأبعد الأوطان دون الأقرب
لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا: يكون عنى وراء كأمام وعنى فوق ونقيضًا له. ومن لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل عنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثله فإنه لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت والشهيد على الأول عنى الحاضر، وعلى الثاني عنى الناصر، وعلى الثالث عنى القائم بالشهادة، قيل: ولا يجوز أن يكون عنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكمًا، ولو قيل: ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أيّ تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون عنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من بـ {شُهَدَاءكُمُ} وهي للابتداء أيضًا، و{دُونِ} عنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة الشهداء أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون {دُونِ} عنى أمام حقيقة أو مستعارًا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول لشهداء ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، و من للتبعيض كما قالوا في: {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد: 11] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل: أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى كان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قايل: هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية ولم تجعل {دُونِ} عنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون {مِنْ} للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى: ادعوا شهداءكم من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم ثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل: تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضًا لا يشهدون لكم حذارًا من اللائمة وأنفة من الشهادة ألبتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه والصدق مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، وجواب {ءانٍ} محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جوابًا لهما، وكذا متعلق الصدق أي: إن كنتم صادقين بزعمكم في أنه كلام البشر أوفي أنكم تقدرون على معارضته فأتوا، وادعوا فقد بلغ السيل الزبى، وهذا كالتكرير للتحديد والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد: إن كنتم صادقين في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعًا لأن الاحتمال شك أيضًا، ومن التكلف كان قول الشهاب: إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا، ووجه ملائمة الآية لما قلناه في الآية السابقة أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكمًا بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في المثل أو بالشهادة على أن المأتي به مثل ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدًا منهم فإنهم باعثون له على الاتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضًا، وقد أورد هاهنا أمور طويلة لا طائل تحتها.


{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة} فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان ثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم فآمنوا واتقوا النار، وأتى بأن والمقام لاذا لاستمرار العجز وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير تهكمًا بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقًا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظرًا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، و{تَفْعَلُواْ} مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين {ءانٍ}، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالًا بهذه الآية، وردّ بأن إن تطلب مثبتًا، و لم منفيًا، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال: فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الاتيان المحقق في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل: وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو إن لم يقمن وإن كان للجملة يرد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلًا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام ظاهرًا لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية أعني الأمر بالاتقاء هو عجزهم عن إيقاعه لافوت حصول المقصود، وقيل: أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال عونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرًا من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازًا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مرادًا ولن كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله:
لن يخب الآن من رجالك ومن *** حرك من دون بابك الحلقة
ولا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولا طول مدة أو قلتها خلافًا لبعضهم، وليس أصلها لا أن كما روي عن الخليل فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار لن تضرب كلامًا تامًا دون أن ومصحوبها، وقيل به لقوله:
يرجى المرء ما لا أن يلاقيه *** ويعرض دون أقربه الخطوب
واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا لا كما عند الفراء فأبدلت ألفه نونًا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرًا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاد العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لما يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيًا. وقوله سبحانه: {فاتقوا} جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه، وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضًا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سببًا للاتقاء ولا ملزومًا له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جوابًا، والتزمه جملة خبرية لأن الإنشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرًا إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضي له، والوقود بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدرًا عند بعض، وحكوا ولوعًا، وقبولًا، ووضوءًا، وطهورًا، ووزوعًا، ولغوبًا. وقرأ عبيد بن عمير {وقيدها} وعيسى بن عمير وغيرها {وَقُودُهَا} بالضم. فإن كان اسمًا لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرًا كما قيل في سائر ما كان على فعول فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولًا: كذو وقودها أو ثانيًا: كاحتراق وهو نفسه خارجًا غير مفهومًا وذاك مصداق الحمل، وحكي أن من العرب من يجعل المفتوح مصدرًا والمضموم اسمًا فينعكس الحال فيما نحن فيه. والحجارة كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل بفتحتين على فعال شاذ، وابن مالك في التسهيل يقول: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونواحطبًا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل: المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة زيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرًا كما في القاموس دون هذين القولين، الأصح أولهما: عند المحدثين وثانيهما: عند الزمخشري؛ ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وأل فيها على كل ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين؛ فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر الناس والحجارة تعظيمًا لشأن جهنم وتنبيهًا على شدة وقودها ليقع ذلك في النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهوخلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضًا، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: أنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادًا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولًا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودًا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك الخطيب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولًا مقالًا فتأمل.
{أُعِدَّتْ للكافرين} ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودًا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافًا بيانيًا بأن يقدر لمن أعدت أو لمَ كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف بشر الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافًا يأبى عنه الذوق، أما الأول: فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني: فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال بلمَ كان شأن النار كذا مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالًا من النار باضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير {وَقُودُهَا} للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجبني حينئذ ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة نزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل: إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والاخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة.
و {وَقُودُهَا الناس} إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى: {أُعِدَّتْ} هيئت، وقرأ عبد الله {اعتدت} من العتاد عنى العدة، وابن أبي عبلة {أعدها الله للكافرين} والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولًا أوليًا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار. ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم كانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضيًا ك {نفخ في الصور} [الكهف: 99] والإعداد مثله في {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا} [الأحزاب: 35] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرروها هواء محترق لا جمر لها ألبتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن. ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارًا، وكان يكره الوضوء ائه ويقول: التيمم أحب إلي منه وقال تعالى: {وَإِذَا البحار سُجّرَتْ} [التكوير: 6] أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى: {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي: {التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} [الهمزة: 7] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل ن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيق الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية وماذا على إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11